“أنا الذي تربيت على حب الوطن، أجد نفسي في بحثٍ متواصل عن وطن بديل علّني أجد فيه ما يمنحني الإحساس بالإنتماء والثبات”
يوسف، مهاجر عبر قوارب الموت
إعداد: أحمد ترو – مريم دحدوح – كلارا نبعه – كارين خاطر الشدياق – جنى هلال.
“أنا الذي تربيت على حب الوطن، أجد نفسي في بحثٍ متواصل عن وطن بديل علّني أجد فيه ما يمنحني الإحساس بالإنتماء والثبات” هكذا عبّر يوسف (اسم مستعار) عن المعاناة التي رافقته منذ بدء الأزمة السورية في العام 2011، عندما أراد الهروب من الالتحاق بخدمة العلم التي تطول لأكثر من 9 سنوات يُغتصب فيها عمر الشباب.
بحرقة يُضيف اللاجئ الذي أنهكته تبعات الحرب: “أهاجر لأنّني أرفض أن أكون طرفًا في صراعاتٍ سياسية لا نهاية لها، أهاجر لأنّي تعبت من الشعور بالخذلان والمعاناة”.
كالآلاف من أبناء بلده، أخذ لبنان وجهةً له علّه يجد الكرامة في بقاع هذه الأرض، لكن الرياح تجري بما لا تشتهي السفن، إذ لم يجد يوسف ابن الثلاثين عامًا، لا الكرامة ولا العيش الهنيء في لبنان. وبعد سعيه مرارًا للحصول على أوراق قانونية، فشلت كل محاولاته، فقرر بدء مغامرة جديدة، ألا وهي الهجرة غير النظامية من سواحل لبنان إلى بلاد أوروبا، علّها تكون الملاذ الآمن.
“لم يكن التعامل مع تجّار البشر بالأمر اليسير، فهؤلاء لا يرون الأشخاص سوى فريسة دسمة لكسب الأموال، ناهيك عن شراستهم في التعامل”، يروي لنا يوسف عن تجربته مع الهجرة غير النظامية، مشيرًا إلى أنه واجه تحديات عديدة في كل محاولة له بدءًا من الجوع والعطش وعدم تأمين مأوى، وصولًا إلى الانعدام التام للنظافة الشخصية والأمان، بالإضافة إلى الفوقية والتعالي في التعاطي والمعاملة وكل هذا بسبب لقب “لاجئ”.
ويُضيف: “كنتُ شاهدًا مرّات عدة على بعض الجرائم. خلال احدى محاولاتي، فاق عدد الركاب قدرة القارب فقرّر هؤلاء التجار اختيار عدد منهم لرميهم في أعماق البحر”.
أمّا عن استغلال النساء، فيقول : “حدّث ولا حرج، كنتُ شاهدًا على العديد من حالات التحرّش بالنساء واستغلالهن وكل هذا يترافق مع عدم قدرتنا على التدخل”.
كما كشف اللاجئ عن محاولة هجرة جديدة سيخوض غمارها قريبًا: “هذه رابع محاولة لي وأتمنى أن تكون الأخيرة بعد أن باءت محاولاتي السابقة بالفشل لأسباب عديدة منها تدخل الشرطة، سوء الأحوال الجوية، والخلاف بين أفراد المافيا”.
قصّة يوسف ليست الأولى من نوعها ولن تكون الأخيرة، حيث نشطت الهجرة غير النظاميّة عبر السواحل اللبنانيّة بوتيرة مرتفعة مع بداية الأزمة الاقتصادية سنة 2019، وبحسب مفوضيّة اللاجئين فإنّ “عام 2021 شهد مغادرة 38 قاربًا من الشواطىء اللبنانيّة تضمّ 1570 شخصًا، معظمهم من الجنسيّة السوريّة فضلًا عن 186 لبنانيًّا، ونجحت 9 منها فقط باللوصول إلى وجهتها”.
موجة هجرة جماعية وضحايا بالمئات
نشط عمل المراكب غير النظاميّة في السنوات الأخيرة في لبنان، وبشكل خاصّ في الشمال حيث أكّد السفير الهولندي لدى لبنان هانس بيتر فان دير وود، خلال كلمة ألقاها في طرابلس ضمن فعاليات ندوة دعت إليها منظمة “acua” أنّ: “الهجرة عبر البحر قد ازدادت ثلاثة أضعاف في عام 2022 عما كانت عليه في العام السابق 2021”.
في حين كشف الباحث في “الدولية للمعلومات” محمد شمس الدين، في وقتٍ سابقٍ، أنه: “بحسب بيانات قوى الأمن اللبناني فقد تم إحباط 33 رحلة خلال العام الماضي قبل انطلاقها من البحر”.
رغم عدم وجود رقم واضح لعدد الرحلات غير النظاميّة التي خرجت من الشواطئ اللبنانيّة، إلّا أنّ الجدول أدناه يظهر عدد الرحلات التي أدت إلى سقوط عدد كبير من الضحايا تخطى الـ 182، وعدد كبير من المفقودين الّذي ابتلعهم البحر المتوسط من نيسان إلى كانون الأول.
خلال هذه الفترة، غرق مركبين غير نظاميّان أُطلق على هاتين الرحلتين اسم “مراكب الموت” حيث بلغ عدد الضحايا في 23 نيسان 2022، 36 شخصًا، وفي 23 أيلول 2022، 102 من حاملي الجنسية اللبنانيّة، السوريّة، والفلسطنيّة.
من جانب آخر، كشف مراسل لوكالة “فرانس برس” بعد غرق قارب يقل أكثر من 200 شخص يسعون للهجرة إلى أوروبا، في 31 من كانون الأوّل، أنّ: “الركاب كانوا من الرجال والنساء والأطفال بينهم غالبية سورية ونحو ٥٠ لبنانيًا“، أي ما يعادل أكثر من 150 لاجئًا سوريًا كان على متن المركب الّذي غرق.
تعددت الأسباب و”الهجرة” واحدة…
في هذا السياق، يكشف الخبير والمستشار في التنمية والسياسات الاجتماعية الاستاذ أديب نعمة أن الاسباب التي تدفع باللاّجئين السوريين في لبنان الى الهجرة تنضوي تحت عناصر جاذبة وأخرى طاردة. عناصر الجذب تتعلّق بالميّزات المتوفرة في البلد الذي يرغبون في التوجّه إليه وخصوصًا أوروبا التي تعتبر وجهة مفضّلة لديهم، ذلك أنّها تسمح لهم بالتمتع بحقوقهم الانسانية غير المتوفرة في لبنان. أما عناصر الطرد التي تدفعهم في هذا الاتجاه، فتتألّف من مكوّنين أساسيّين : الأول مكوّن اقتصادي – معيشي حيث يواجه اللاجئون السوريون في لبنان صعوبة في تأمين مستوى معيشي لائق، والثاني سياسي – أمني متمثّل بوجود بعض التوترات، سوء المعاملة، المواقف السياسية المحرّضة ضدهم، وإمكانية ملاحقة المعارضين منهم من قبل النظام السوري داخل لبنان.
وعن العوامل المساعدة التي يمكن أن تشكل عناصر طرد إضافية، يذكر نعمة انهيار سعر الصرف، عدم توفر الخدمات، والركود الاقتصادي. كلّ تلك العوامل برأيه يمكن أن تخلق ظروف معيشية صعبة على اللبنانيين واللاجئين السوريين على حدّ سواء، وخصوصًا اللاجئين الذين لا يحصلون اليوم على مساعدات.
يُذكر أنّ مفوضية اللاجئين أكّدت أنّ تسعة من كل 10 لاجئين سوريين في لبنان غير قادرين على تحمل تكاليف المواد الغذائية والخدمات الأساسية، وبحسب دراسات المفوضية أصبح ما يقارب 90% من اللاجئين الذين يعيشون في لبنان تحت خط الفقر، ما شكّل دافعًا كبيرًا لارتفاع مؤشر الهجرة غير النظاميّة عبر البحر لسنة 2022.
ويُضيف نعمة أن الكثافة السكانية بالنظر إلى مساحة لبنان الجغرافية الضيقة، والاحتكاكات العُمالية وعدم وجود أي شكل من أشكال التنظيم لتواجد اللاجئين السوريين في لبنان من قبل الحكومة، جميعها تُشكّل عوامل مساعدة على ترك لبنان واعتباره محطّة مؤقتة.
كما يُشير الى انّ عدم امتلاك اللاجئ السوري لأوراق ثبوتية يشكّل سببًا إضافيًا قد يدفع به إلى الهجرة، لانّ القيود المفروضة عليه بالعيش في لبنان تصبح أشدّ.
ويؤكّد نعمة أن “الدولة اللبنانية امتنعت منذ العام 2011 عن وضع سياسة واضحة اتجاه اللاجئين السوريين في لبنان ومحاولة تنظيم وجودهم واحترام الحق الادنى من حقوقهم الانسانية، يظهر ذلك جلياً في عدم إدراج ملفّ السوريين في جدول اعمال مجلس الوزراء، بالاضافة الى أن الشأن السوري تُرك للوزارات التي تميل في سياستها لتكون في صالح النظام، وتُعبّر عن موقف عنصري اتجاه وجودهم في لبنان”، مُشيرًا إلى أن عدم اتخاذ الدولة للإجراءات المناسبة لم يضرّ فقط بمصالح اللاجئين السوريين وانتهاك حقوقهم، وانّما أضرّ بإمكانية الاستفادة من القوى العاملة السورية الموجودة في لبنان لتحسين وضع الاقتصاد اللبناني.
اللاجئون السوريون بين الخوف والهروب
لفت احمد قصير، مراسل syria tv في لبنان ومختصّ بقضايا اللاجئين، الى انّ عودة اللاجئين السوريين الى بلدهم أصبحت صعبة جدًا في ظلّ التهديدات الامنية التي يتعرضون لها، ويزيد من تلك الصعوبة قانون الملكية رقم 10 الذي أصدره النظام السوري وهو يجرد النازحين من الملكية بسبب العقبات التي يفرضها على عملية إعادة تنظيم الممتلكات الخاصة.
ويقول أنه على الرغم من معرفتهم بخطورة الهجرة غير النظامية الاّ أنهم يبحثون عن حياة أخرى كريمة في بلد آخر، لانّهم لا يشعرون بالاستقرار والأمان في لبنان، مشيرًا الى ان تقليص مساعدات الأمم المتحدة يلعب دورًا كبيرًا، لانّ الكثير من اللاجئين الموجودين في لبنان لا يعملون وانما يعتمدون على المساعدات.
إلى ذلك، أظهرت إحصاءات لمجموعة من الشبكات الاجتماعية حول المواضيع المتعلّقة بالمجتمعات المهمشة والضعيفة في عصر الأزمة، أن شعور الخوف لدى اللاجئين السوريين قد ارتفع بعد أوّل حادثة غرق قارب غير نظامي في 23 نيسان وسجّل 21% ليرتفع مرة جديدة بعد حادثة غرق القارب الثاني في أيلول إلى 33%.
وقد سجّل معدل الغضب 15% في نيسان وانخفض في أيلول إلى 13%. بينما سجّل الشعور بالخطر في نيسان 15% وارتفع المعدل في أيلول ليصل إلى 18%.
ومن نيسان 2022 إلى أيلول 2022 كانت الهجرة غير النظاميّة تحصل بشكل شبه يومي عبر الشواطئ اللبنانيّة، حيث كشف وزير الداخلية في حكومة تصريف الأعمال بسام مولوي في 30 أيلول 2022 ، أي بعد ستة أيام على غرق قارب الهجرة اللبناني في المياه الإقليمية السورية الّذي وصل عدد ضحاياه إلى 102 ضحية، عن “إحباط أكثر من 24 عملية هجرة غير نظامية وإعادة المئات من المهاجرين غير النظاميين بسلام إلى لبنان”.
هل يتم تطبيق القوانين؟
بعد أن باتت الهجرة حلمًا بالنسبة للكثير من اللاجئين حتى ولو كانت على قوارب الموت التي لا تضمن لهم سلامة عيشهم، شهدنا بعض الإجراءات الأمنية والقضائية التي شدّدت عليها الحكومة اللبنانية عام 2022 للحد من رحلات الهجرة غير النظامية عبر البحر والتي تنص على مصادرة أي قارب غير مسجّل، بالإضافة إلى تكثيف دوريات القوات البحرية ومُلاحقة المتورطين في عمليات التهريب.
بات لنا أن نسأل اليوم، إلى أي مدى يتم تطبيق هذه القوانين؟ كانت الإجابة عند المحامية تالا حلاوه التي اكدّت ان هذه القرارات يتم تطبيقها جدّيًا والدليل هو عمليات مصادرة للعديد من القوارب غير النظامية/المسجّلة، حيث تمّ توقيف بما يُقارب الـ 20 قارب مؤخّرًا، بالإضافة الى انتشار العديد من قوات الأمن البحرية التي تعمل على توقيف عمليات التهريب والهجرة غير النظامية، بناءً على قرار وزير الداخلية القاضي بسام المولوي.
وفقًا لبروتوكول مكافحة تهريب المهاجرين المكمّل لاتفاقية الأمم المتحدة، الذي ينصّ على وجوب اخذ الدول تدابير فعّالة لمنع تهريب المهاجرين، أفادت حلاوه وفقاً للمادة 6 “التجريم” بأن الدول، وضمنها لبنان، مُلزمة بتطبيق التدابير التشريعية لتجريم تهريب المهاجرين أو تسهيل عمليات التهريب، علمًا أن هذا البروتوكول “لا يمنع أية دولة طرف من اتخاذ التدابير ضد أي شخص يُعد سلوكه جرمًا بمقتضى قانونها الداخلي”.
وأخيرًا، أشارت حلاوه إلى أن صعوبة حصول اللاجئين في لبنان على إقامات، يُعد من أبرز المؤشرات التي تدفعهم إلى الهجرة غير النظامية بالأخص أن الهجرة إلى بعض البلدان ستخوّلهم فرصة الحصول على جنسية أجنبية، اضافةً إلى وضعهم في لبنان الذي يحد من حريتهم في التعليم او الطبابة في المستشفيات وحتّى وجودهم في منازل آمنة.
تم إنتاج هذا التقرير بالشراكة مع مؤسسة مهارات بدعم مالي من أكاديمية دوتشيه فيليه. ضمن مشروع “Data for Crisis”.
إن الآراء الواردة في هذا التقرير هي مسؤولية المنتج، ولا تعبر عن موقف أكاديمية دوتشيه فيليه أو الجهات المانحة لها ومؤسسة مهارات.