لم يكن بعد خَفَتَ أزيزُ ما لا يقلّ عن 100 رصاصة أطلقها السوري قيس فراج صباح أمس في محيط السفارة الأميركية في عوكر حين تطايرتْ الأسئلةُ حول «الصندوق الأسود» لهذا الهجومِ الخطير بسلاح «كلاشنيكوف» والذي عزّز المخاوفَ حيال ما ينتظرُ لبنان الذي يسير أصلاً على حبلٍ مشدودٍ فوق «فوهة بركان» غزة الذي تحوم حممُه فوق «بلاد الأرز» من بوابة الجنوب وجبهته المحمومة.
وفيما كان لبنان «يربط الأحزمةَ» بملاقاةِ التهديدات الإسرائيلية بأعلى صوت بأن الرسمَ التشبيهي لـ«عملية قوية» ضدّه و«حزب الله» بات جاهزاً وأن انتقال تل أبيب من الدفاع إلى الهجوم على جبهتها الشمالية لا يحتاج إلا إلى «الضغط على الزناد»، جاء الاعتداء المسلّح على السفارة الأميركية ليخطف بعضاً من وَهْج الحدَث المتسلسل جنوباً هو الذي بدا مدجَّجاً بخفايا وخلفياتٍ «تَخَفَّت» خلف عنوان «المتشدّدين» أو «داعش».
وفي حين بقي الرصدُ على أشدِّه لمآلاتِ جبهة الجنوب في ضوء «حرب الحرائق» التي تستعر مُنْذِرةً بما يبدو ترسيماً بالنار لـ «أرضٍ محروقة» على مقلبيْ الحدود وحشْراً لتل أبيب في زاوية خياراتٍ قسرية تراوح بين حربٍ شاملة لا طاقة لها على خوضها و«أيام قتالية» جنوب الليطاني قد تكون «أحلى المُرّ» تمهيداً لاستيلاد «قيصري» لـ «اليوم التالي» (لبنانياً)، بدا من الصعب فصل «عملية عوكر» أمس عن المسرح الكبير الذي يتحرّك عليه الوضع اللبناني بكلّيته، وصولاً لاعتبار أوساط مطلعة أن الرسالة النارية للسفارة الأميركية ما هي إلا انعكاسٌ لـ «المياه العَكرة» في السياسة والأمن في بلادٍ تنخرها الأزمات وتُعاند الاكتواء بجمر غزة وحربها الضروس.
ورغم توقيف مطلق النار وإنقاذ حياته بعد إصابته بجروح في رجله وبطنه نتيجة تحييده من الجيش اللبناني (خضع لجراحة في المستشفى العسكري)، وتَكَشُّفِ الخيوط الأولية لهجوم السفارة عن أن المُهاجِم الذي أَعلن أنه نفذ العملية «نصرة لغزة» يَنضوي في مجموعةٍ من المتشددين، تم إيحاء أنها «داعش»، بانتظارِ أن تكتمل الصورة في ضوء التوقيفات التي شملت 5 متورطين في البقاع، فإن هذا التطوّر اكتسب دلالات بالغة الخطورة، في ذاته كما في الأبعاد المحتملة له والتي سرعان ما برزت «نسختان» لها، كل منها ترتبط بأجواء فريقي «الممانعة» كما المعارضة. ومن هذه الدلالات:
– أن الهجوم، أياً تكن خلفياته يشكّل خرقاً أمنياً كبيراً على مستويين، أولهما عبّر عنه وزير الداخلية اللبناني بسام مولوي بكشفه أن «المهاجم نقل متفجرات من مجدل عنجر إلى عوكر»، لافتاً إلى «أن المهاجم اجتاز عدة حواجز وهذا مستغرب»، مضيفاً «نبحث عن الجهات التي تقف خلف الهجوم». علماً أن تقارير تحدّثت عن أنه وصل إلى محيط السفارة في فان استقلّه من البقاع وكان يخبئ السلاح والجعبة والخوذة في حقيبة، وقد ارتدى «المرقّط» في مكان يجري العمل على تحديده قبل أن يفتح النار في محيط السفارة حيث تردد أنه ألقى أيضاً قنبلة ما تسبب بجرح أحد الحراس وهو لبناني.
أما المستوى الثاني فهو لأمن محيط السفارة الذي يُفترض أن يكون مَضْبوطاً بالكامل وخصوصاً بعد تعزيز الإجراءات منذ بدء حرب غزة وتَحَوُّل هذا المقرّ هدفاً لمَسيرات وتظاهرات منددة بالدعم الأميركي لاسرائيل. علماً أن المقرّ تعرّض مَدخله في 20 سبتمبر 2023 لعملية إطلاق نارٍ من مسلّح لبناني نجح في الفرار من المكان وتم توقيفه بعد أيام قليلة في الضاحية الجنوبية لبيروت، وعُزي هجومه إلى خلاف حصل بينه (يعمل كسائق ديليفري) وبين حراس السفارة على خلفية «التصرف معي بطريقة دونية».
ويُذكر أن واشنطن تَمضي بتوسيع سفارتها في عوكر عبر بناء مجمّع جديد ضخم بدأ العمل به في 2017 ويمتد على مساحة 174 ألف متر مربع، وهو ما اعتُبر أنه يقرب من ضعفين ونصف مساحة الأرض التي يجلس عليها البيت الأبيض وأكثر من 21 ملعباً لكرة القدم، وبتكلفة مليار دولار. وسبق لسفارة عوكر أن تعرّضت يوم 20 سبتمبر 1984، لهجوم بسيارة مفخخة ما أسفر عن مقتل 11 شخصاً وجرح 58، علماً أن مقرّ السفارة كان نُقل من بيروت (الواجهة البحرية للعاصمة في منطقة عين المريسة) إلى عوكر بعد هجوم انتحاري استهدفها في 18 ابريل 1983 وأدى إلى مقتل 49 موظفاً كما أصيب 34 بجروح.
«الذئاب المنفردة»!
– إنّ العبارات المدوَّنة على جعبة وملابس فراج وهي «الدولة الإسلامية، الذئاب المنفردة، لا غالب إلا الله، ISIS»، وما تكشَّف أيضاً عن العثور على عبواتٍ متفجّرة ومواد لصناعة قنبلة في منزل قتادة فراج (شقيق المهاجم) في مجدل عنجر، وإن كانت تشير إلى ارتباط مرجّح بـ «داعش»، فإنّ أوساطاً متابعة استوقفها أن المُهاجِم الذي اتّضح أنه لم يكن معه أحد خلال تنفيذ العملية التي استمرّت لنحو نصف ساعة (إلى أن نجح الجيش اللبناني في تحييده) لم يكن يرتدي حزاماً ناسفاً وأن سلوكه لم يكن «انتحارياً». علماً أن عمليات الدهم التي نفّذها الجيش اللبناني وأمن الدولة وشعبة المعلومات في قوى الأمن الداخلي في البقاع (مجدل عنجر والصويري) أفضت الى توقيف 5 أشخاص، بينهم شقيق فراج ووالده، والشيخ مالك جحة إمام مسجد أبوبكر الصديق في مجدل عنجر (قيل إن المهاجم كان يتلقى تعليماً دينياً منه).
– إن فراج الذي يسكن في منزل مستأجر يقع عقارياً في بلدة الصويري ومالكه من مجدل عنجر، مسجّل على لوائح مفوضية اللاجئين التي تُدرج عليها أسماء النازحين السوريين.
– إن «حضور» بُعد النزوح و«داعش» (كان الجيش أوقف مجموعة في الشمال قبل أكثر من اسبوع) في هجوم السفارة عمّق المخاوف من أن يكون ما جرى في سياق محاولة للعب على «صواعق» مزروعة أصلاً في الواقع اللبناني وتشكل «فتائل» جاهزة للتفجير بأي «عود ثقاب» مثل قضية النازحين لاستثمارها في اتجاه إذكاء الاحتقان حيال هذا الملف ودفع الوضع اللبناني من هذه الزاوية إلى منحى أكبر من الفوضى، ناهيك عن مَخاطر تظهير أن النزوح بات يُستخدم في إطار تشكيل خلايا متشدّدة أو داعشية «نائمة» يتم تجهيزها بعتاد متكامل وقادرة على التنقل بحرية وبلوغ «أهدافها بسلام»، ما يجعلها قابلة لـ «الإيقاظ» في اتجاه أو آخر ولأجندة هنا أو هناك.
المسار الخلْفي لحرب الجنوب
وفي رأي أوساط مطلعة أن مَكمن الخطر في هذا الإطار هو أن يكون إظهارُ العامل «الداعشيّ السوري» في الوضع اللبناني في هذا التوقيت مرتبط برسالةٍ تتّصل بالمسار الخلْفي لحرب الجنوب وتحديداً المحاولة الأميركية لبلوغ اتفاق حول الجبهة اللبنانية وترتيبات ما بعد أي هدنة أو وقف حرب في غزة، وهو المسار الذي ما زالت تعترضه صعوبات تتصل بدفتر الشروط الأمني، سواء لجهة إصرار تل ابيب على ابتعاد «حزب الله» عن الحدود لنحو 10 كيلومترات، أو رفض اسرائيل التعهد بأن يكون في آخِر «الاتفاق الحدودي» وقف لخروقها الجوية بل ربما «تمويهٌ» لها، على طريقة «ما لا يُرى غير موجود»، عبر جعل المسيّرات تحلّق على ارتفاعات «غير ظاهرة» كما أسرّ الموفد آموس هوكشتاين للزعيم الدرزي وليد جنبلاط.
ومن هنا يُخشى أن يكون هجوم السفارة، وفق الأوساط نفسها وهي على خصومة مع «حزب الله»، في سياق إنذارٍ بأن عدم الضغط بما يكفي على اسرائيل، أو الاعتقاد بأن ما لم تحققه تل ابيب في الميدان يمكن انتزاعه في الديبلوماسية، قد يكون ثمنُه انزلاق لبنان الى الفوضى من «خاصرة رخوة» اسمها الحَركي التشدد أو الإرهاب، وذلك خلافاً لرغبة واشنطن التي تُعتبر الكابح الأول لاسرائيل حتى الساعة عن توسيع الحرب مع حزب الله.
وفي المقابل برز مناخ في أجواء غير بعيدة عن «الممانعة» لمح إلى ان عملية السفارة أمس وما قابلها من استنكارات رسمية وسياسية، إلى جانب تظهيرها الحضور القوي للولايات المتحدة في لبنان، فهي ستؤسس لمزيد من التشدد تجاه النازحين لإحداث فوضى أمنية وتضييق الخناق على لبنان كي يقبل بشروط التسوية الأميركية وإلا الفوضى.
المصدر: الراي الكويتية