كوفية ملطّخة!!

الاسم :نضال

العمر: 12 سنة

حي الشيخ جرّاح.

نضال في الارض

مهدي هنا.. ولحدي هنا..

أخلد  الى النوم مع قبضة تعصر قلبي لتنزف ما تبقّى من قطرات عمري، اضع رأسي على وسادة اختزنتها دموع حرقة فؤادي، أنام متنبّهة الذهن متخوّفةً من إنقضاضٍ قد يختلس مني بضعة ما أقتني، حاضنةً دميتي لأحميها من رصاصة قد تخترق وجدانها.

أستفيق مرهقة الفكر، أُشمّر لخوض حربٍ نضاليّة.. أمسح غبار دمعتي، لأروي زهرة فلسطين الذابلة، علّ ظهرها المنحني يستقيم، أرسم على وجهي بسمة الحرية التائهة، لأرعب بها من يتوهم امتلاكها، أخطو خطوة نحو عتبة بيتي لأقف على منبر الإستقلاليّة والكفاح، أتهيأ لغضبٍ مسجون يريد أن يلتهم فاعله.

أحدّق به من بعيد، ها هو المستوطن الوضيع الخسيس، يقف متكبّراً، مصوّباً عيناه الممتلئة بالعدائية نحو منزلي، يتقدّم بحماية خنازيره ليعلو صوته وبكلّ

وقاحة لازماً  أبي وأميّ بإخلاء المنزل وإلاّ سيضطر على استخدام القوّة.

صراخ أبي وأمي يرتفع، بكاء إختي يافا وهي منكمشة في ركن المنزل يخيفني، مراقبة أهالي الحي بعجزٍ وحسرة رافعين أيديهم الى رب العالمين يريبني..  يقترب المستوطن يعقوب متبختراً مهدّداً:

  • أخرجوا من المنزل إنّه لي.

لينفعل أبي متفجّراً:

  • على أي أساس تريد مني إخلاء المنزل؟ هذا بيتي ملكي ليس ملك “يلي خلفوك”.
  • دولتي لا ترغب بكم، سيصبح هذا المنزل لي عاجلاً أم آجلاً، لذا من الأفضل أن تسرعوا..
  • لن نخرج من منازلنا ولن نترك أرضنا لكم، وقل لمن تدعوها بالدولة أنّ فلسطين ستتحرّر منكم في يوم لن تروا بالشمس شروقاً.

ذرفت دمعة من زاوية عين أمي:

  • لما تفعلون هذا بنا، لماذا تريدون سرقة بيوتنا.

ليردّ عليها يعقوب الوضيع:

  • إن لم أسرقه أنا منكم فسيأتي أحدٌ آخر لسرقته.
  • أيها الرخيص العنصري عد من حيث أتيت وخذ معك “الجرابيع” التي تحتمي بها، فلا أنت ولا أمثالك تستطيعون إخافتنا تحت تهديد السلاح.

يقترب أبي محاولاً الهجوم عليه بالضرب، تشتدّ الأزمة سوءاً، إخوتي هرعوا الى قعر المنزل، أشاهد ما يحدث عن كثب، أحبس دمعتي التي كادت أن تفضح خوفي، أحاول أن أفك عقدة لساني لأنطق بأعلى صوت:

  • لن نرحل!! بل أنتم من سوف ترحلون، يا لصوص المنازل، يا قراصنة الأرض والوطن، يا قتلة الأطفال، يا سارقين الأحلام والمستقبل.

تضع أمي يدها على فمي مرتعبةً لأصمت، أمسك يدها وأنظر اليها بعيناي لتمتنع عن سكوتي.

  • أنظروا إليّ يا مغتصبوا الأرض، أتظنّون أنّكم بقتلي قادرون على طمس هويّتي ؟ أتظنّون أنّكم قادرون على امتلاك هذه الأرض والله موجود؟.. والله سيأتي يوم لن تستطيعوا شمّ رائحة هذه الأرض حتّى، أنظروا الى هذا البيت جيّداً، فهذا البيت لي وجدرانه لي، وما في داخله وما عليه لي… نحن باقون هنا ولن نذهب الى أي مكان، فاخرجوا أيها الإرهابيون من  باحة بيتي ومن موطني الذي سيصبح جحيم لكم إن شاء الله ولا تحاولوا العودة مجدّداً.

ينظر اليّ يعقوب ببغضٍ يعتري وجهه الملعون، محدّقاً بي جيّداً ويذهب بكامل غضبه ناترا كلابه معه.

أعود الى بيتي، اتمعن النظر في جدرانه، في غرفه، في ذكرياته، أشمّ رائحة السكينة، ألملم بعضي وأدخل الى غرفتي، أرتّب أغراضي خائفةً من أن يصبحوا حطاماً يوماً ما.. أقف بجوار نافذتي أتأمّل في السماء بنظرةٍ عاجزة راجية  الله أن يطلق عنان نجومه لتُمطر عليهم ناراً أشدّ من نار جهنم.

أناضل لأبقى، أناضل لأتحرّر… لن أرحل من حي الشيخ جرّاح، لن أرحل من فلسطين..

….يا فلسطين لا تغادريني طالما لم أغادرك….

الاسم: صمود

 العمر: ١٦ سنة

غزّة الابيّة

صمود العمر…

في فجر يشقّق مع صوت عصافير، تقف أمام نافذة غرفتها، نافذة تلقي تحية الصباح، لنوافذ تقابلها كلّ يوم في اشراقة يوم جديد، رائحة الصباح رغم اختلاطها بروائح الخوف، إلاّ انها تغزو قلب صمود.

تقف صمود  أمام مرآتها التي حضنت ضعفها ومرارة انكسارها متأمّلة براءة ملامحها ، هاربة من صوت الطائرات والغارات والقنابل.

تسرّح شعرها الاشقر الذي يسدل على كتفيها، مرتديّة أبهى ملابسها ، مزيّنة اطلالتها بأجمل الحلى. تنشغل بصور في عقلها وقلبها، صورة لاطفال أكلتهم نيران الشظايا، تسيل دمعة على خديها لتختلط مع رذاذ عطرها.

تنظر الى السماء ترى دخانا بعيدا، مباني تحترق، فجأة يباغتها صوتا مسرعا لسيارة اسعاف واصواتا تردد “الله اكبر، الله اكبر عليكم، الله اكبر”.

 همست صمود بنفسها  ” أدقّت ساعتنا؟” هرعت مسرعة الى غرفة اختها ايمان، فإذا بها تركض نحوها باكية ” صمود لا تتركيني، صمود أنا خائفة”.

فكيف لصمود ان تواسي طفلة أخرى؟

وهنا بدأت الحرب، في الحرب تهتز البيوت كما النخيل ولا تنحني، ترمي بذاكرة السكون عن ابوابها وترتدي زيّها العسكري. أنا صمود، صمود صلاح الدّين، صمود أهل غزّة، صمود فلسطين.

أنا صمود، أغمس قدمي الملطختين بالهرب في أحشاء الارض، أركض نحو اللاشيء، لا أصل ولا أفهم. ماذا أفعل؟ أحمل روحي على ظهري أجرها ببطء، وان سقطت، أسقط واقفة، لم تعلّمني الايّام الانكسار ولم يتجرأ العدوان على دفني.

أنا صمود، عقارب الايّام تنظر اليّ بتوجس، تنتظر الانهيار الكبير، إلا انني لم أعتد الاستسلام للكيان.

 حملت ايمان، وركضنا الى الملجأ المجاور لبيتنا، أنظر حولي، فإذا برضّع نائمون وأطفال باكون ورجال مقاتلون وأمهات صامدون. أنظر الى عجزي اللعين الخفي، أراه سيّدا رافعا شارة الصمود، أراني غاضبة مثقلة بالجبن، أنا الغاضبة الخائفة وبين يدي الحالمة الصامدة.

جلست حاضنة ايمان، وقد انهش التعب جسدنا، أشعر ببراءة الاطفال وحنان الامهات، فتذكرت أمّي الشهيدة الحبيبة، من علمتنا ان نقوى على الطغيان فإذا بصوتها يعبر مسامعي قائلة ” حبيبتي، العبي قريبا من قلب الوطن، لا تلتهمك الحدود، فأخشى عليك من الكلاب والجنود، وأنت تعبرين الفصل الاخير من أسطورة الصمود، تذكري بأنّك لغزّة أمل النهوض”.

 لم أستطع النوم، وشعرت ان قوة ما اشتعلت بداخلي، أخذت أجول بين الاطفال، فكيف لاقدام صغارنا ان تهرول بسرعة نحو السماء؟ ما تهمتهم؟!!!

وحدنا هذه الليلة نكبر، نغزل الوقت ونرديه، نلتهم الرعب الذي يسيل من أفواههم الصغيرة، فمن يلتهم أفواهنا؟

وفي هذه الليلة، كبرت على الصمود، وآمنت بالعزّة وعدم الرضوخ.

 اقتربت من ايمان، فقبلت وجنتيها وهمست باذنيها “هذه أرضك يا صغيرتي”، وانطلقت في هذه الارض، علّني أجد سببا لملاقاة أمي وأبي.

أنا صمود، صمود المستضعفين، صمود المظلومين، صمود الحالمين، صمود كلّ فلسطيني أليم.

“عزيزتي ايمان،أنا لم أتركك، ولن أتركك فأنا على يقين بأن ايمانك هو الصمود.”

الاسم: أمل

العمر : ١٠ سنوات

من نابلس، اللّد

أمل ولو بعد حين

” امي… انا خائفة ، إذا استشهدنا لا أريد الموت وحيدة ، أريد أن يضعونا في القبر نفسه ، كي أستطيع ان أغمرك  كلّما اشتقت الى رائحتك ، و دعيهم يلبسوننا ثياب العيد لأنني لم أفرح في العيد ..”

كتبت هذه الرسالة لأمي وقبلتها ثم وضعتها تحت وسادتها قبل أن أذهب للمدرسة .

 أشعر بالارتياب في كل صباح عندما ادوس عتبة بيتي ، بيتي الجميل ، بيتي الهادئ و الدافئ ، بيتي الذي حضنني خائفة و ضمني كئيبة .

وصلت الى المدرسة وسارعت الى حضن أمي قبل أن أودعها. فهل يكون هذا وداعنا الاخير؟ أراها حزينة و قلقة دائما و لكن عندما انظر اليها ، تبتسم و تدمع عيناها خوفاً . ودّعتها بقبلة على وجنتيها و قلت :”لا تخافي يا امي ان الله معنا” .

ذهبت مسرعةً الى الصف قبل أن أتأخر ، لأنني أحب معلمتي سارة كثيرا فهي من تفاجئنا بالالعاب دائما ، الا انني لم ارى ابتسامتها ككل صباح . أخذت أبحث عنها، فوجدت المدير واقفاً عند الباب حزينا ، شعرت بالضيق والخوف ، أخبرنا أن معلمتنا سارة رفرفت الى السماء ، فابتسمت …

لماذا ابتسمت؟ لماذا لم أحزن ؟كان الأمل كافياً لجعلنا نتشبث بأرضنا راكضين لنيل الشهادة، و لأنني كنت أعلم أنها لن تشعر بالخوف ابداً، و ستبقى سعيدة حيث ملتقاها بأمها وأبيها في الجنة ، لكنني سأشتاق إليها فاعلم انني سأراها يوما من الايام .

عدت الى البيت بعد يوم عصيب ، و بدأت بالبحث عن لعبتي البيضاء التي لا أفارقها أبدا ، لم اجدها ، فسألت أبي عنها قبل خروجه مع شخص لم اراه من قبل “بابا وين لُعُبتي البيضا ؟؟” لم يجب، فابتسم و ذهب .

ظلت امي تبكي طوال النهار ، لم اعرف السبب ، هل تبكي على ذهاب ابي ؟ ام انها تتذكر أخي المرحوم ؟ حضنتها و همست في اذنها “لا تبكي يا امي ، ان الله معنا” فابتسمت .

لم ارى ابي بعد ذلك اليوم ، أين ذهب ؟ لماذا تركنا من دون وداع ؟ اين ابي الذي كان يحمل هموم الدنيا على ظهره ؟ اين بطلي؟…

في منتصف الليل ، سمعت اصوات الصواريخ اتية من الخارج ، فركضت مسرعةً الى امي و غمرتها من شدّة الخوف .

 لم يمض الليل بسرعة ، كانت الساعة تمضي كأنها سنين ، و في كل ساعة تمضي، أسمع فيها دوي الانفجارات  و صراخ الامهات و بكاء الاطفال ، و من شدة الخوف أضع يدي على اذني لاهرب من الهلع .

وفي طلوع الفجر ، شرعت الى الصلاة مع امي و جلسنا لتناول الفطور ، وما ان بدأت بتناول فطوري حتى سمعت احداً يطرق على بابنا و يصرخ بصوتٍ عالي “افتحوا الباب !!” نظرت بخوف فاذا بأمي تقول”: يا ربي ساعدنا ، يا رب نجينا ، يا رب احمينا !” فَتحت له الباب و قالت :” ماذا تريد ؟ “

قال الرجل : أريد هذا البيت ، اخرجوا ! كانت ثيابه تشبه ثياب الرجل الذي ذهب مع أبي منذ ايام ، فسألته : ” وين راح ابُوي ؟ وين راح و تركنا ؟ شفتو شي ؟ ” لم يجب .

قالت له امي : لن تأخذ ذكريات أمل ما دمت أنا حيّة!

ردّ باصرار : اخرجوا!

 وانهال علينا بالضرب المبرح ….

حزمنا امتعتنا و تركنا بيتنا و ذكرياتنا معه ، نظرت إليه لآخر مرة،  لربما لن اراه بعد اليوم ، ثم نظرت الى امي ، و دموعها قد ملأت وجهها الجميل ، سألتها : أمي ؟ إلى أين نحن ذاهبون ؟ ابتسمت و قالت “: لا تخافي يا بُنَيتي ، ان الله …” لم تكمل كلامها ، نظرت اليها و اذ بالدماء تسيل من ركبتيها ! انهارت من البكاء ، ثم وضعت يديها برفق على بطنها ورددت:” وداعا يا من لم ألقاه،وداعا يا صغيري، اسفة”.

ذهبنا الى مكان مزدحم بالناس و الاطفال، و رأيت الكثير من المخيمات .

قالت لي امي حينها : “أمل ، صغيرتي ، هنا بيتنا الجديد” . شعرت بالحزن و لكنني تماسكت نفسي لانني اعرف ان هذه الأيام سوف تمر .

جلست اشاهد الأطفال يلعبون، ولا ادري من اين تعلموا مهارة النسيان!

أدركت في هذا اليوم، ان في عيناي أمي معالم الامل، وفي روحها أبطال الامل، وبصغيرتها كلّ الامل!

سعادة العمر لا نعرفها

في ليلة يملؤها السكون، وبيوت لا تعرف النور، وقمر متربع في السماء يضيئ الوجود، وجدت نفسي وحيدا أجول أزقة شوارع حيفا ،فاذا بنظري يقع على نافذة بيت سلبت منه روحه، أتساءل هل الإحتلال مغتصب نوره؟ أم أهله خائفون من الافصاح عن وجودهم؟

في طريقي، تأملت البيوت وكأن شبح التهم الجموع ، احسست بخطوات تتتقدم ، فرأيت إمرأة حسناء، ناعمة الملامح، والبسمة تملأ وجهها، هذا ما إستطعت أن أحصل عليه، جمال وأناقة غلبها خفت الانوار.

إتجهت هذه المرأة نحو بيت و طرقت الباب بيديها الناعمتين ، فُتح لها الباب و دخلت.

 تابعت سيري حتى وصلت حيّنا، و قبل أن أذهب إلى بيتي صرخ لي صديقي مازن و دعاني إلى إحتساء كوب من  الشاي برفقته.

 و بعد أن شربنا الشاي و تبادلنا أطراف الأحاديث، ودعته و خرجت من عنده، وفي خروجي من عمارته تحط عيناي على المرأة الحسناء نفسها، واقفة  تطرق باب بيت “أبو تمارا” الذي اصبح كفيفا نتيجة طلق ناري أصيب به عندما كان شابا أثناء إشتباكه مع جنود العدو الصهيوني،راودني شعور بداخلي منبها اياي من المرأة، فتراجعت لاراقيب ما سيحصل.

فتحت زوجة أبو تمارا الباب لها واستقبلتها، لكنني بقيت منتظرا خروجها، لم تمر دقيقة واحدة حتى فتح الباب و أم تمارا تطردها من بيتها قائلة “لا مكانا لك في بيتنا”.

 خرجت المرأة و في عيناها بريق من الخيبة لكنني جهلت أي نوع من الخيبة هذه.

 و في الوقت نفسه تفاجأتُ من أسلوب أم تمارا في تعاملها مع ضيفتها، لأنني أعرف جيدا طيبتها وحسن ضيافتها.

بقيت متربصا مكاني، مستعدا لرؤية ما سيحل بالمرأة. وأتساءل “هل ستطرق بابا آخرا؟”

 فاذا بها تقترب لتطرق باب “أم مجاهد” التي فقدت إبنها مجاهد وهو ينقذ فتاة أراد جنود العدو إغتصابها لكنهم أطلقوا عليه النار و اسقطوه شهيدا. فتحت أم مجاهد الباب لها و أدخلتها بيتها، وما قامت به أم تمارا نفسه فعلته أم مجاهد.

بدأت أتعرق و علامات الذهول و الدهشة مسيطرين علي، وهبت رياح أفكاري، وبدأت ألعب دور المحلل لكي أكشف سر ما يجري أمام عيناي منذ بداية تلك الليلة حتى  اللحظة.

ثم قلت في نفسي” لماذا أتتبعها خفية؟ لماذا لا أذهب و أسألها عن أمرها؟” لكنني تراجعت و ربما لم يكن لدي الجرأة الكافية لكي أواجهها و استمريت في مراقبتها، فرأيتها تدخل الشارع الثانية من الحي، فخلعت حذائي و لحقت بها حتى لا تسمع خطواتي، فطرقت باب جارة جديدة لنا في الحي كانت قد طردت من بيتها في “حي الشيخ جراح”، وما فعله معها أصحاب البيوت السابقة فعلته معها الجارة الجديدة.

إستمريت في ملاحقتها حتى طرقت بيوت الحي كلها و النتيجة كانت نفسها .فلم يتبقى سوى بيتي لم تطرقه، فذهبت مسرعا إلى بيتي قبل وصولها، وصلت إلى البيت و جلست منتظلرها، لكني رحت غاطسا في نومي.

إستيقظت صباح اليوم التالي و أنا لا أزال أفكر، و التوتر و القلق و الذهول بانا علي ،وفي رأسي ألف تساؤل، وأولهم لماذا لم أذهب إليها و أعرف ما قصتها و لماذا خفت منها، و لماذا رغم خوفي أتيت أنتظرها في بيتي؟ انفجر رأسي من كثرت التفكير و قررت أن أنسى كل ما حصل في الليلة الماضية، فلبست و جهزت عدة العمل و كل ما تضمنه من كاميرا و لابتوب… و استعديت للسفر إلى غزة حيث موقع التصوير لكي أنتهي من تصوير الريبورتاج الذي اهلكني به مدير القناة التي أعمل فيها.

سافرت، وصورت، وارسلت الريبورتاج إلى مديري عبر (الإيميل) ، واتجهت إلى مطعم “عمو أبو نبيل ” الذي كنت أتردد إليه كلما ذهبت إلى غزة. وصلت إلى المطعم و كالعادة إستقبلني العم أبو نبيل بضحكته الواسعة، وكلماته العزبة، وغمرني وعاتبني لأنني لم أزره منذ مدة طويلة.

جلست على الطاولة، وإذ بصحن الفتة الشهي الذي اعتدت على طلبه دائما يقدم لي من قبل العامل، وما إن وضعت أول ملعقة فتة في فمي حتى رأيت المرأة الحسناء.

فوضعت ثمن صحن الفتة  على الطاولة و رحت ألحق بها، فخرج أبو نبيل يناديني و يقول لي” لم تضع لقمة واحدة في فمك، الى أين أنت ذاهب؟!”، لكني لم ألتفت إليه و تابعت ملاحقتي لها، حتى طرقت باب أحد المنازل، وكما طرودها جيراني طردوها باقي البشر. لكن هناك شيئ غريب أنها في الإبتسامة نفسها تجول كل بيت، والخيبة ترتسم في عيونها كلما  طردت.

لم تمل هذه المرأة من تكرار ما تفعله و راحت تدخل المطاعم و الحانات و المقاهي و مواقف السيارات و الجميع يطردها. و استمريت في اتباعها خطوة بخطوة حتى طرقت باب كل بيت في فلسطين و طردت منه.

بعد ذلك رأيتها متجهة نحو البحر و جلست على صخرة كبيرة، هذه المرة تشجعت و ذهبت جلست بجانبها، لكن لمدة نصف ساعة لم يبادر أحد مننا في الكلام حتى نظرت إليها و سألتها من أنت؟

– أنا من هنا من رحم هذه الأرض، من كل بيت و كل زاوية، كنت صديقة كل الناس، رجالا و نساء، كهولا و أطفال، لكن في يوم من الأيام إستيقظت في مكان بعيد من هنا  و وجدت نفسي وحيدة و جميع الناس تهرب مني، و ما من باب أطرقه إلا و يطردني، لكني لا أعلم ما سبب هذا الجفاء و الحقد علي.

رغم أن كلامها كان حزينا إلا أن البسمة لم تفارقها طوال حديثها ، والغموض في كلامها أثار تفكيري و فضولي أكثر لمعرفة ما سرها .

– كلامك مليئ بالفلسفة و الغموض، اظنه من صنع خيالك، هل كنت تبحثين في كل هذه البيوت عن أحد كنت  قد فقدتيه؟

– لا، أنا لا أبحث عن أحد لكن الناس هم من يبحثون عني، وحين أتيت بنفسي إليهم طردوني

–  و من أنت حتى الناس كلها تبحث عنك؟

– بصوت مرتبك و هي خائفة ” أنا السعادة، لكن أرجوك لا تطردني، كما فعل كل الناس”

– تقصدين بالسعادة، الشعور نفسه؟؟ إذا أنت السعادة!!

– نعم!

– رغم أنني متأكد أنك إمرأة مجنونة، إلا أنني سوف أشرح لك لماذا كل بيت في فلسطين كان يطردك.

تابعت بهدوء “أيتها السعادة، كم أنت مغرورة و تظنبن أن كل ناس بحاجة إليك وتبحث عنك، نعم، ربما يكون ظنك صحيح، لكن ليس قبل أن نحصل على حريتنا، إذهبي الآن لا يوجد مكان لك وسط شعب سلبت منه حريته، لكنني متأكد في يوم ما سوف يكون مرحب فيك في كل بيت في فلسطين”

فحملت نفسها و رحلت ووعدت بالعودة لفلسطين الحرّة.

الاسم:حرّة

العمر:سنين الدهر كلّها

الهوية:فلسطينية من كل زوايا فلسطين

“كنت بحجم كفّك،طفلة،شابة،امرأة،عجوز ولكن كنت حرّة….كنت فلسطين”

وعندما استيقظت يوماً رأيت نفسي مرمية وسط ساحة المسجد الأقصى،ملفوفةً بقماش أبيض مرّ عليه غبار القصف ودم الشهداء. واذ رُفع الآذان الله اكبر…الله اكبر!

آذان الفجر..وماذا يليه؟

انشقاق النور وزقزقة العصافير ونسمة عليلة تمر حاملةً رائحة اشجار الزيتون واوراق الزعتر.لكن الضباب قد طغى وطال.

رفعت رأسي عالياً فإذ بنعالٍ داس على وجهي.تبعثرت ملامح وجهي ولم أستطع استيعاب ما يدور حولي.

وبلمحة وأنا تحت ذلك النعال استرجعت كل ذكرى

١٤ آذار ١٩٩٤ مدينة القدس

القصف ينهمر علينا كالمطر،الرصاص فتك بإخوتي كحبات البرد الصلبة فمزّق أجسادهم

أمسك أبي يدي وحمل على ظهره امي المقعدة وهمّ خارج الدار تاركاً خلفه ٣ شهداء؛اخوتي.

-حرّة:يابا..اخواتي،خلينا ناخدهم

-معناش وقت امشي عالملجئ

تربّصتُ واقفةً وأبيْتُ المُضي..وفكرت “كيف للأب ان يكون في ذلك القلب البارد القاسي ليترك أطفاله ويذهب”

فقال لي:احنا مجبورين نفل..خليهم يحموا دارنا يابا خلي الدار يشبع من ريحتهم.

أمسكتُ يد أبي بيديَّ الاثنتين وكأنني أقول له “مهما حصل لا تفلت يدي”

رصاصٌ وصواريخ وأحجار تسقط علينا من حيث لا ندري.أبي مريض القلب والسكري،أصبح شاحباً وبدأ يستسلم لجسده المنهمك.فأنزل امي عن ظهره ووضعها قرب قبة الصخرة،وذهب ليبحث عن مكان آمن يضعنا فيه.غاب أبي وغاب وغاب،استشهد أبي.نظرت يميناً على أمّي وأيقظتها

-امي هيا استيقظي لنذهب فقد طال غياب ابي،استيقظي لنذهب الى ملجئ يأوينا.

وقد استغربت “هل يمكن لأحد ان ينام مفتوح العينين ومبتسماً”

نامت أمّي نوماً أبدياً في القدس قرب قبة الصخرة، قرب مسرى النبي.

٢٠٠٥

شموخ فتاة الخمسة عشر عاماً أمام الكيان الصهيوني. كوفية ملطخة التفت حول معصمي وحجارةً تبنّت يدي.أرشق الحجارة في كل ما امتلكت من قوى،مسلمةً روحي لله اولاً وللقدس ثانياً.

٢٠٢١

عدت الى الواقع،واذ انّ ربّي أنزل علي قوةً جعلتني أنتفض تحت نعال قد ترك أثراً على وجهي.

من وقفت وقفة شموخ في وجه ذلك الجندي المتطفل المنحط.

-لن أقول لك كيف لكم أن تقتلوا أطفالاً ونساءً وتسرقوا أرضنا،بل سأقول “كم كانت ضحكتنا شوكاً في صدوركم،وشهادتنا غصةً في نفوسكم ودمائنا أنظف من وجوهكم.”

عارٌ على أمّةٍ لم تلبِّ النداء..فهيهات إنّا نحن للقدس فداء يا أرضي سنعود ونحيا فيكي…واذ لم نكن جسداً سنكون روحاً.سترتوي الأشجار من دمائنا،وستُروى قصصنا لأبنائنا.سنحيا فيكي يا فلسطين ربّما ليس اليوم ولكن ذات يوم.

انشر المقال
Scroll to Top