دراما “النار بالنار”.. واقع المعاناة وجدل الاختلاف

أحمد ترو

تجاوز سباق المسلسلات الرمضانية منتصفه، وأصبحت الحكايا أكثر وضوحًا، وأسدلت الستارة عن ما تحمله المواد الدرامية من رسائل وقضايا.

ككلّ سنة قلّة من بين مئات المسلسلات تستطيع الاكتساح بقوّة وغالبا ما يتعلّق الأمر أوّلا، بأسماء النجوم الأكثر قبولا لدى المتابع، وأحيانًا تظهر مواهب جديدة تسرق الأضواء من الكبار. وثانيًا والأهم بقلم الكاتب وعدسة المخرج، فلهما الحكم النهائي إما أن يرفعا من قيمة العمل أو يأخذا به إلى الهاوية.

فهل توافرت هذه العناصر بمسلسل “النار بالنار”؟ وهل استطاع قلم رامي كوسا أن ينسج من المعاناة اللبنانية قصة درامية تحاكي الواقع المتأزم في البلاد؟ هل نجحت عدسة المخرج محمد عبد العزيز في تحويل نص الكاتب إلى سلسلة مشهدية معبرة؟ هل حلّق كل من الممثل السوري عابد فهد واللبناني جورج خباز، وزميلتهما كاريس بشار في سماء الدراما كما عوّدونا؟!

في حيّ لبنانيّ شرق بيروت، سكّانه الأصليين مسيحيي الديانة، تغيّرت ديموغرافيته إثر اللجوء السوري إلى لبنان بعد المأساة التي أصابت بلادهم في عام 2011 مثل العديد من الأحياء اللبنانية، وهذا طبعا لا يرضي عازف البيانو”عزيز” (جورج خباز) وهو أحد السكان الأصليين، الذي يعيش رحلة بحث مستمرة عن والده الذي خطفته ميليشيات سورية في خضمّ الحرب الأهلية اللبنانية، ليتفاقم الغلّ والحقد في قلبه تجاه حاملي الهوية السورية، الأمر الذي رفع من حدّة الصراع بينه وبين “عمران” (عابد فهد) الذي أخذ من المال قوّة وسلطان في الحيّ المسيحي الذي يرزح سكانه تحت خط الفقر والذي يؤمن بمبدأ “المال ينظف وسخ الدنيا” وليس العكس، فمن يريد الإقتراض يأتي إليه، طبعا لا تتم العملية إلا وفق شروط: توقيع المقترِض على دفتر صغير لا يفارق جيبه، ورهن بقيمة المبلغ المقترَض.

مع دخول “مريم” (كاريس بشار) المعلمة السورية التي عبرت الحدود اللبنانية بطريقة غير نظامية في منتصف الحلقة الثانية، وضعنا أمام مواجهة أخرى -أنثوية هذه المرة- بينها وبين شريكتها في السكن “سارة” (زينة مكي) الفارّة من أهلها العازمين في إيقاع الحد عليها إثر هروبها مع الشاب الذي وقعت في حبّه، لتغرم مرّة جديدة بــ “عزيز”.

على الفور، يظهر لنا المخرج مكنونات شخصية “مريم” حينما حاولت “سارة” التعالي عليها نظرًا لهويتها، فأوقفتها اللاجئة عند حدّها، ومن هنا ينطلق الصراع بينهما ليتطور لاحقًا لغيرة “سارة” على “عزيز” من “مريم”.

وهنا عمد المخرج لتبرير أي رد فعل سينتج لاحقا عن الثلاثي مريم ــــ عزيز ــــ عمران، إذ كشف في الحلقتين الأولتين عن الصفات الشخصية لكلّ منهم.

الخط الدرامي لــ “مريم” كشف عن الجزء الرومانسي داخل “عمران”، والأهم هو الكشف عن معاناة اللاجئ السوري الذي يدخل لبنان من دون أوراق ثبوتية، واضطراره لتزوير جواز سفر لبناني، هذا فضلا عن لجوئه إلى عصابات تهريب البشر عبر البحر بطريقة غير نظامية. وهي المخاطرة الأكبر والتي قضى على اثرها المئات من اللبنانيين واللاجئين السوريين والفلسطينيين خلال السنوات الأخيرة.

جميل وقمر: كوميديا من رحم المعاناة

حال جميل (طارق تميم)، الصحافي المنقطع عن المهنة، المثقف والقارئ الشره، هو مرآة تعكس حال العديد من المثقفين اللبنانيين الذين لا يملكون في جيبهم فتات المال.

 وضعت شخصية جميل في قالب تراجيدي ــــ كوميدي شاركته بطولته زوجته قمر (ساشا دحدوح) التي علّمته لعب “البوكر” بغرض التسلية فأدمنه لدرجة أنه صار يبيع أثاث منزله من أجل “برتية” علّها تكون الملاذ.

على الرغم من الحال المبكي للزوجين وعلاقتهما غير المستقرة، وتنصل الأخير من مسؤولياته، لا سيما عندما أدرك أن زوجته حامل وطلب منها إجراء فحص “دي ان اي” للتحقق من نسل الطفل الذي في طريقه إلى بيئة لا تتوافر فيها أدنى مقومات الحياة، إلا أنك لا تستطيع الانقطاع عن الضحك حين يظهرا على الشاشة، وخصوصا تلك الصفعة التي تنزلها “قمر” على رأس “جميل” عندما يتغابى.

 وهذه نقطة إيجابية تحتسب لرامي كوسا، حيث مزج بين التراجيديا والكوميديا، الأمر الذي خلق نوع من التوازن النفسي لدى المتلقي وخاصة اللبناني فتارة تذكّره بمأساة يومياته، وأخرى تجعله يستمتع بالأداء الكوميدي المنفرد لتميم ودحدوح، اللذان شكلا الثنائي الأفضل في مسلسلات الموسم الرمضاني.

إخفاق واحد!

أمر مؤسف، أن تأخذنا الحكاية إلى إظهار الجوانب السلبية فقط للبيئة المسلمة. تسليط الضوء على الزواج المبكر وجرائم الشرف أمر مهم وضروري، لكن في قصة كقصة “النار بالنار” تتناول البيئتين المسلمة والمسيحية وتقديم الأخيرة على الأولى من حيث الرقي والثقافة، مع عدم إفساح المجال لإظهار ميزة واحدة تتحلى بها البيئة المسلمة أمر مخزي. وهنا يجب التأكيد أن ما أُظهر عن البيئة المسيحية هو حقيقي وواقعي لكن موضعه مقابل البيئة المسلمة يخلق عند المتلقي صورة سوداوية عن الاسلام.

هذا النقد، لا يلغي حقيقة براعة تقمص الممثل اللبناني طوني عيسى لشخصية “زكريا” وهو نموذج حي لشخص، لا تفارق السبحة يداه، يدعي فهم الاسلام. فهو يتهجّم على جيرانه وقتما شاء في حين يدعو الاسلام لحسن الجوار، يضرب زوجته “رؤى” القاصر في وقت استوصى فيه النبي بالنساء خيرا، هذا فضلا عن نواياه الخبيثة في شراء أصول الحيْ كافة لبناء “مول تجاري”.

كوسا.. العميق بلمساته!

نجح الكاتب السوري رامي كوسا العبقري في كتاباته والعميق بلمساته بإسقاط البيئة اللبنانية على ورقة بما فيها من أزمات متداخلة: تدهور اقتصادي بلغ أشدّه، بيئة اجتماعية متباينة الثقافة ذات هوية واحدة.

ولولا تعديلات المخرج محمد عبد العزيز، على النص لكان صدح صوت “النار بالنار” أكثر في سماء الدراما العربية. وهو ما استخلصناه بعد الاطّلاع على النص الأصلي الذي واظب الكاتب على نشره عبر حساباته في “السوشيل ميديا” عقب كلّ حلقة والتي أظهرت إختصارًا شديدًا للنص الأصلي، أفقده جزءًا كبيرًا من جماليّته.

نذكر أن كوسا كان قد طرح اسم المخرج الليث حجو ليشاركه مهمة  “النار بالنار”، لكن الأخير اعتذر لتعهده مهمة إخراج “سفر برلك” الذي كان من المفترض أن يوقّعه المخرج الراحل “حاتم علي” لكن وفاته أحالت المهمة إلى حجو.

عرض من المسلسل الذي أنتجته شركة “الصبّاح إخوان” حتى تاريخ كتابة هذا المقال 18 حلقة عالية المستوى، لتبقى الحلقات المقبلة هي الحكم النهائي على مستوى المسلسل.

انشر المقال
Scroll to Top